إعتقال الزمن .. أن ترى طفلًا لأول مرة بعد ثلاثين عامًا

1- أول مرة

كنت أتصفح في سيل الفيديوهات على إنستجرام، ذلك الفيض اليومي الذي لا ينتهي، وإصبعي يتحرك بشكل آلي لأعلى ولأسفل بين مقطع وآخر، حتى وقع تحت عيني هذا الفيديو ..

فتوقفت.

الفيديو يقف فيه (محمود العارضة) أمام ثلاثة أطفال وهو يمسك أيديهم بحذر كمن يلمس شيئًا هشًا قد ينكسر، أو ربما كمن يتأكد من أن ما يراه حقيقي وليس خدعة أخرى من خدع الاعتقال الطويل، فيتفحص ملامح أياديهم بدقة بينما عيناه تتنقلان بين الدهشة والحيرة، ثم يقول بنبرة فيها ذهول وفرحة معًا وبشيء يشبه الاكتشاف: "أنا أول مرة أشوف إنسان مثل هيك". اعترافٌ شديد القسوة يحمل معه ثقل ثلاثين عامًا، ثلاثة عقود كاملة قضاها (محمود العارضة) خلف قضبان سجون الاحتلال الإسرائيلي، وثلاثة أطفال أعمارهم سبع سنوات يقفون الآن أمام رجل لم يرَ طفلًا منذ أن كان العالم مكانًا مختلفًا تمامًا.

اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي محمود العارضة للمرة الثانية عام 1996 بعد ثلاث سنوات فقط من الإفراج عنه إثر اتفاقية أوسلو، وحين اعتُقل محمود كنت أنا طفلًا في الخامسة من عمري، خمس سنوات فقط من الحياة معظمها لا أتذكره الآن، كنت في مكان ما ربما ألعب أو ربما أتعلم المشي بثبات، بينما كان محمود يُساق إلى زنزانة لن يخرج منها إلا بعد أن أكبر وأدرس وأتخرج وأشارك في ثورة وأُهزم وأهرب من بلدي، فاليوم أنا في الرابعة والثلاثين متزوج وأعيش في المنفى هاربًا من فاشية سحقت الجميع بلا تمييز. يقف محمود أمام هؤلاء الأطفال ويلمس أيديهم بذهول، وهم تقريبًا في نفس العمر الذي كنت أنا فيه حين أُغلقت عليه الأبواب للمرة الأخيرة، لتكتمل دورة أخرى حيث يكبر جيل بينما يختفي رجل ثم يظهر ليجد أن العالم تحرك بسرعة شديدة بدونه.

بعد مشاهدة هذا الفيديو أدركت شيئًا دقيقًا تفصيليًا ربما أفهمه لكني لم أدركه بهذا الوضوح المُقبض وهو إجابة ذلك السؤال: لماذا حاول محمود يومًا ما أن يحفر نفقًا بملعقة مرة بعد مرة رغم كل شيء. في يونيو 2014 عُزل محمود في سجنه بعد اكتشاف نفق كان يحفره في سجن شطة، وأمضى في العزل أكثر من سنة لكنه لم يتوقف، ففي صباح السادس من سبتمبر 2021 نجح محمود - العقل المدبر لعملية الهروب - مع خمسة أسرى آخرين في الهروب من سجن جلبوع الأمني المشدد عبر نفق حفروه بملعقة، لكنها كانت أربعة أيام فقط من الحرية، ففي العاشر من سبتمبر أُعيد اعتقاله ومن هرب معه جميعهم.

بالتأكيد هناك الرغبة في الحرية وفي الكرامة وفي الإصرار على ألا يُكسر، وكل هذه دوافع أفهمها جميعًها، لكن حين أشاهد محمود يمسك أيدي هؤلاء الأطفال وحين أسمعه يقول "أول مرة أشوف إنسان مثل هيك" أدرك شيئًا آخر أكثر تحديدًا، فتخيّل أن تحفر الأرض بملعقة يومًا بعد يوم وشهرًا بعد شهر بينما المعدن يحتك بالحجر ويداك تنزفان وظهرك يتقوس من الألم، وكل ليلة تعود إلى نفس البقعة لتحفر سنتيمترات قليلة أخرى وتخفي التراب لتواصل في اليوم التالي، ثم تسأل نفسك: ما الشيء المحدد تمامًا الذي تحفر من أجله؟

أظن أنها ليست "الحرية" ككلمة مجردة وليست الفكرة العامة عن الخروج من الأسر، بل أحيانًا يكون السبب محددًا جدًا: أن ترى يد إنسان لم تر مثله من قبل، فبالتأكيد كان ثمن أربعة أيام من الحرية هو إعادة الاعتقال والعزل وربما سنوات أخرى من العقاب، لكن لو كانت هذه الأيام الأربعة تحتوي على لحظة واحدة فقط ترى فيها طفلًا وتلمس يده وتتأكد من أن هذا النوع من البشر ما زال موجودًا في العالم فربما يصير حفر نفق بملعقة الفعل الأكثر عقلانية في الكون، وربما أفعال كثيرة يراها الجميع أنها محض حماقة أو تهور أو جنون أو انتحار هي الأخرى تصبح شديدة العقلانية إذا كانت نتيجتها هي تحرير إنسان ليرى ما لم يره منذ ثلاثين عامًا، فهو العقل ذاته.

2- إعتقال الزمن

أكثر ما يؤرقني أكثر من أي شيء آخر حين أفكر في السجن هو الزمن، ليس القيد على الجسد وليس الجدران أو القضبان، بل الزمن نفسه، كيف يُسرق من المعتقل، وكيف يتحرك العالم بأكمله من حوله بينما هو معلق في لحظة واحدة لا تتغير.

وهذا تحديدًا ما تفعله الفاشية حين تمارس سلطتها الكاملة، فهي لا تكتفي بسجن الأجساد بل تسعى إلى سجن الزمن ذاته، إلى تجميد الحياة وتحويل الإنسان إلى كائن خارج التاريخ، منفصل عن حركة العالم ومعزول عن كل ما يصنع المعنى الإنساني للوجود، إنها تمارس أقسى أشكال العقاب: محو الإنسان من الزمن بينما يظل حيًا.

في مؤلفه القيم "المراقبة والعقاب" لم يتحدث (ميشيل فوكو) فقط عن السجن كمكان للعقاب الجسدي، بل عن السجن كآلية لإعادة تشكيل الذات عبر السيطرة على الزمن، فالسجين لا يُعاقب فحسب لأنه ارتكب جرمًا من وجهة نظر الدولة، بل يُخضع لنظام زمني صارم يهدف إلى "تطبيعه" أو بالأحرى كسره، فالاستيقاظ في ساعة محددة والأكل في وقت محدد والنوم وفق جدول صارم، كل هذا يجعل الزمن أداة انضباط وأداة سيطرة وأداة تفريغ للذات من إرادتها.

لكن ربما ما لم يتحدث عنه فوكو بعمق أو ما يُصبح أكثر وضوحًا في حالات مثل (محمود العارضة) هو أن السجن لا يفرض فقط نظامًا زمنيًا، بل يعزل السجين عن الزمن الاجتماعي وعن الزمن الحي، وهنا يمكن أن نستعير من الفيلسوف الإيطالي (جورجيو أغامبين) فكرته عن "الحياة العارية" تلك الحياة المجردة من كل سياقاتها الاجتماعية والسياسية، فالسجين في هذا المعنى يُختزل إلى مجرد كائن بيولوجي يتنفس ويأكل لكنه منفصل تمامًا عن نسيج الحياة الاجتماعية المتحركة وعن الزمن الذي يصنع المعنى.

الاحتلال الإسرائيلي - وهذا ما تعلمته الأنظمة القمعية منه جيدًا ونظام السيسي في مصر مثالًا - لا يكسر الإنسان فقط بتقييد حرية حركته، فهذا سهل وبدائي، لكن الكسر الحقيقي يحدث حين تعزل إنسانًا عن الحياة التي تتحرك، حين تجمّد الزمن حوله بينما يواصل الزمن تدفقه في الخارج، حين تجعله يعيش في زمن شبه ميت، زمن لا ينتج ذكريات جديدة ولا يصنع علاقات، زمن التكرار الأبدي للحظة واحدة، زمن نيتشه الكابوسي: العود الأبدي لنفس اليوم ولنفس الجدران ولنفس الوجوه.

ففي الحقيقة محمود العارضة وكل سجين في كل مكان في العالم المرعب الذي نعيشه لم يُحرموا فقط من حريتهم، بل حُرموا من رؤية أطفال يكبرون ومن سماع الأغاني الجديدة ومن معرفة كيف تطورت التكنولوجيا ومن رؤية أصدقائهم يشيخون ومن حضور جنازات أحبائهم أو أفراحهم، حُرموا من الزمن نفسه، والآن حين يمسك محمود يد طفل فهو لا يستعيد فقط لحظة إنسانية، بل يحاول أن يلمس الزمن الذي سُرق منه، كل تلك السنوات التي مرت من حوله دون أن يكون جزءًا منها.

3- ثلاثون عامًا

ثلاثون عامًا، هذا هو الرقم الذي يلخص حياة محمود في الأسر. لكن ماذا يعني هذا الرقم حقًا؟

أدعو كل من يقرأ أن يفعل شيئًا الآن، أن يجلب ورقة وقلمًا أو أن يفتح ملفًا فارغًا على حاسوبه ويبدأ في الكتابة، فليكتب كل ما حدث من عام 1996 حتى الآن، كل شيء دون أن يتوقف، فليكتب الأفلام التي شاهدها والأغاني التي أحبها والأحداث الكبرى: سقوط برجي التجارة والربيع العربي والثورات والانقلابات والحروب، وليكتب التطورات التكنولوجية: أول هاتف محمول امتلكه وأول مرة استخدم فيها الإنترنت، ظهور فيسبوك وتويتر وإنستجرام وواتساب، وليكتب كل عناوين الكتب التي قرأها والأماكن التي سافر إليها والأشخاص الذين تعرف عليهم وأحبهم.

فليكتب عن المواليد، من وُلد في حياته من 1996 حتى الآن؟ أطفال وأبناء أصدقاء وأقارب، ثم ليكتب عن الوفيات، من فقد؟ ومن رحل؟ وليكتب عن إنجازاته الصغيرة والكبيرة، تخرجه ووظيفته الأولى وزواجه ومشاريعه وأحلامه التي تحققت وتلك التي انكسرت، وليكتب عن الأغاني والموضات التي تغيرت والأفكار التي كانت تشغل الناس، وليكتب عن التحولات السياسية والهزائم الجماعية واللحظات التي شعر فيها بالأمل واللحظات التي شعر فيها باليأس.

فلا يتوقف عن الكتابة بل يستمر ويدوّن كل شيء، وحين ينتهي أو حين يشعر أنه كتب ما يكفي رغم أنه لن يكون كافيًا أبدًا فليتوقف للحظة وليتذكر: هناك إنسان معه في هذا العالم لا يعرف أيًا من هذا، محمود العارضة لا يعرف شيئًا مما كُتب، فثلاثون عامًا من حياته بكل تفاصيلها وبكل تعقيداتها وبكل لحظاتها لم تحدث له.

مراجع

1-فوكو، ميشيل. المراقبة والعقاب: ولادة السجن. ترجمة علي مقلد. بيروت: مركز الإنماء القومي، 1990.

2-أغامبين، جورجيو. حالة الاستثناء: الإنسان الحرام . ترجمة ناصر إسماعيل القاهرة: مدارات لألبحاث والنشر، 2015.

Next
Next

لن أسقط وحيداً: سيكولوجية الإنحطاط الجماعي