لن أسقط وحيداً: سيكولوجية الإنحطاط الجماعي

1

يقدم علم النفس تفسيراً علمياً دقيقاً لواحدة من أخطر الظواهر الاجتماعية المعاصرة بل اكثرها انحطاطاً وإثارة للاستفزاز، ألا وهي النزعة المدمرة التي تتملك شرائح واسعة من النخبة الاقتصادية - الطبقة الوسطى العليا والبرجوازية وطبقة الأثرياء الجدد - في المجتمع المصري المعاصر، حيث تتمثل هذه الظاهرة في رغبة مُلحة وعميقة لجر الآخرين نحو هاوية الانحدار الأخلاقي، من خلال حملة ممنهجة تهدف إلى تطبيع الوقاحة والفساد واللامبالاة الأخلاقية، بل وحتى السلوك الإجرامي، تحت راية ضمنية تحمل شعار:

"لن أسقط في مستنقع الإنحطاط وحيداً".

إن الأساس العلمي لفهم هذه الظاهرة المعقدة يرتكز على نظريتين محوريتين في علم النفس الحديث: الأولى هي نظرية التنافر المعرفي (Cognitive Dissonance) ، والثانية هي نظرية الانفصال الأخلاقي (Moral Disengagement)، اللتان تكشفان الآليات النفسية الخفية وراء ذلك السلوك المدمر.

الأولى: التنافر المعرفي (Cognitive Dissonance)، هي باختصار ذلك الإزعاج الذهني الذي يُختبر عندما يحمل الشخص معتقدين متضاربين أو عندما لا تتماشى أفعاله مع معتقداته، أو عندما يواجه الشخص تناقضاً في معتقداته أو قيمه، فإن الضغط النفسي الناتج يُحل عادة عبر تشويه الإدراك، أو رفض أو دحض التناقض، أو البحث عن دعم أخلاقي من أشخاص يشاركونه نفس المعتقدات المتناقضة، أو محاولة إقناع الآخرين بأن التناقض غير حقيقي. وأول من عمل عليها كان عالم النفس الاجتماعي ليون فستنجر (Leon Festinger) وذلك اثناء دراسته لإحدى الطوائف التي كانت تعتقد أن الأرض ستُدمَّر بواسطة طوفان عظيم.

أما النظرية الثانية: الانفصال الأخلاقي (Moral Disengagement) فهي وفقاً لعالم النفس (ألبرت باندورا) فهي نظرية تفسر كيف يتمكن الأشخاص من ارتكاب أفعال ضارة دون الشعور بالضيق الأخلاقي، عبر عملية إعادة هيكلة معرفية تتيح للأفراد الانفصال عن معاييرهم الأخلاقية الداخلية والتصرف بشكل غير أخلاقي، قد يتركز الانفصال الأخلاقي على إعادة الهيكلة المعرفية للسلوك اللاإنساني ليبدو حميداً أو جديراً بالثناء من خلال التبرير الأخلاقي.

ينخرط هؤلاء في تصميم آليات دفاعية نفسية معقدة تولد بداخلهم نزوعاً عميقاً نحو التبرير الجماعي، حيث يُظهر هؤلاء الأشخاص رغبة ملحة في تعويد الآخرين على الانحطاط والوساخة واللاإنسانية، مدفوعين بعقدة نفسية عميقة مفادها أنهم يرفضون أن يكونوا الوحيدين الذين تنازلوا عن مبادئهم وأخلاقهم وكرامتهم وإنسانيتهم في سبيل الحصول على موطئ قدم في عالم السلطة الفاسد، وبعد أن توهموا خطأً أن المبادئ والمعايير الأخلاقية لم يعد لها مكان في عالم يحكمه قانون "البقاء للأقوى"، راحوا يسعون بإلحاح لإقناع الآخرين بأن الانحطاط هو السبيل الوحيد والحتمي للنجاح.

في اللحظات الإنسانية العميقة والكاشفة - مثل الحروب والكوارث الإنسانية، أو تحرير الأسرى والمعتقلين، أو الحوادث المأساوية التي تودي بحياة الفقراء - عندما يشعر الكثيرون  برغبة عميقة في اتخاذ مواقف شريفة ومبدئية، نجد هؤلاء الأشخاص في حالة من الهلع والسعي المحموم لإقناع المحيطين بأن كل ما يحدث من مواقف نبيلة ليس سوى "خداع وكذب"، عبر ترديد عبارات مدمرة مثل: "كلنا فاسدون، كلنا عبيد لقمة العيش" - وهي جمل تنم عن انحطاط وحقارة شديدين.

2

إن دور النُظم القمعية والاستبدادية السياسية والاجتماعية فيما سبق تقديمه، مركزياً و محورياً في تضخيم وتعميق تلك الظواهر الانسانية، حيث تعمل آليات القمع الممنهج على خلق بيئة اجتماعية مسممة، تغذي التنافر المعرفي والانفصال الأخلاقي بطرق كثيرة،  فالنظام القمعي يمارس ضغطاً نفسياً مستمراً على الأفراد، يجبرهم على التكيف مع واقع مشوه حيث الصمت عن الظلم "حكمة"، والخضوع للفساد "واقعية"، والتنازل عن الكرامة "براجماتية"، ففي هذا الواقع المقلوب تُخلق حالة من التطبيع المرضي مع الانحطاط، حيث يصبح الفساد هو القاعدة والنزاهة استثناء مشبوه.

إن أخطر ما في ذلك السياق هو أن النُظم القمعية لا تكتفي بممارسة الفساد، بل تسعى بنشاط محموم، لتجريم وتشويه أي مظاهر للشرف والكرامة والحرية الحقيقية، لأنها تمثل تهديداً وجودياً لشرعيتها المزعومة، فعندما يرى الناس نماذج حية للنبل والمبدئية، فإن ذلك يكشف زيف الادعاءات بأن "الفساد ضرورة حتمية" أو أن "الجميع متورط"،  لهذا نجد الأنظمة الفاشية تستهدف بضراوة كل من يجسد قيم مبدأية شديدة البساطة كالشرف والكرامة - سواء كانوا مفكرين أو ناشطين أو حتى مواطنين عاديين يرفضون الانحطاط - لأن مجرد وجودهم يفضح الكذبة الكبرى التي يقوم عليها النظام القمعي، ويثبت أن البديل الشريف ليس مستحيلاً بل ممكن وضروري.

يمكننا فهم تلك الآليات الاجتماعية العميقة التي تستخدمها النُظم القمعية لتدمير البوصلة الأخلاقية للمجتمعات وخلق بيئة مسممة تطبع الأفراد مع الانحطاط، من خلال ما طرحته " حنا أرندت " في تحليلها الرائد والذي ذكرته في كتابها " أصول التوتاليتارية" ، تكشف كيف تنجح الأنظمة الشمولية في خلق ما أسمته "تفاهة الشر"، حيث "الرعية المثالية للحكم الشمولي ليسوا النازيين المتعصبين أو الشيوعيين المتفانين، بل الناس الذين لم يعد التمييز بين الحقيقة والخيال، بين الصحيح والخطأ، موجوداً لديهم" هذا التدمير المنهجي للقدرة على التمييز الأخلاقي يخلق أفراداً منفصلين عن ضمائرهم، قادرين على ارتكاب أبشع الجرائم دون الشعور بالضيق الأخلاقي، لأن الشر أصبح عادياً ومقبولاً اجتماعياً.

من ناحية أخرى، يقدم هربرت ماركوزه في كتابه "الإنسان ذو البُعد الواحد" تشخيصاً عميقاً لكيفية تشكيل الأنظمة الحديثة لوعي زائف يجعل القمع يبدو عقلانياً ومبرراً. ماركوزه يجادل بقوة أن النظام الذي نعيش فيه في الغرب قد يدّعي أنه ديمقراطي، لكنه في الواقع شمولي، حيث فرضت عقلانية تكنولوجية نفسها على كل جانب من جوانب الثقافة والحياة العامة، وأصبحت مهيمنة بالقدر الذي تخلق معه حالة من الوعي الزائف الذي لا يمثل مجرد وهم، بل يصبح واقعاً حقيقياً يعيشه الأفراد ويتماهون معه، مما يجعلهم عاجزين عن رؤية القمع الذي يمارس عليهم أو مقاومته.

3

على سبيل المثال، يتجلى التداخل الخبيث بين آليات التنافر المعرفي والانفصال الأخلاقي - في سياق النظم القمعية - بوضوح مفجع في ردود الأفعال التي أعقبت حادثة طريق الواحات المأساوية، حيث لقيت 18 فتاة وشاب واحد حتفهم في حادث مروري مروع أمام قرية مؤنسة، هؤلاء الفتيات الفقيرات كن يتوجهن إلى عملهن اليومي في تعبئة العنب بمدينة السادات - عمل شاق للغاية وبأجر زهيد - في محاولة لكسب لقمة العيش وإعالة أسرهن، لكن القدر حال دون ذلك عندما اصطدمت الميكروباص الذي يستقلونه، بسيارة نقل يقودها سائق فقير هو الاخر، تحت تأثير مخدرات رخيصة.

ما كان مذهلاً ومثيراً للاشمئزاز حقاً، هو ردود الأفعال التي انبثقت من شرائح النخبة الاقتصادية والطبقة الوسطى العليا على مواقع التواصل الاجتماعي وفي التجمعات الخاصة، فبدلاً من التعبير عن التعاطف الإنساني الطبيعي مع هذه المأساة، انطلقت موجة من التعليقات الساخرة والاستهزائية التي تحمّل الضحايا مسؤولية موتهم، مختبئة خلف منطق زائف مفاده: "لماذا يُنجب الفقراء أطفالاً كثيرين إذا كانوا لا يستطيعون رعايتهم؟" أو"هذا ما يحدث عندما يرمي الفقراء أطفالهم في الطرقات للعمل".

لكن ما لم تدركه هذه الفئات المنعزلة في فقاعاتها الاجتماعية، أو ربما تدركه وتتجاهله بقسوة متعمدة، هو أن هؤلاء الفقراء لا يُنجبون أطفالاً كثيرين بدافع اللامبالاة أو الجهل، بل في محاولة يائسة للبقاء. هؤلاء الأطفال يتحولون بعد سنوات قليلة من الطفولة المسروقة إلى أيدٍ عاملة صغيرة تُعيل أسرها، في دائرة جهنمية لا تنتهي من القهر والاستغلال. الطفل الذي يبلغ الثامنة أو العاشرة من عمره يصبح مصدر دخل لإخوته الأصغر، وللوالدين المسحوقين تحت وطأة الحاجة. إنها ليست خيارات، بل قرارات فرضها الفقر المدقع في غياب أي شبكة حماية اجتماعية حقيقية.

والمفارقة السوداوية الأعمق هنا، أن النظام نفسه الذي أثرى هذه الطبقات العليا عبر شبكات الفساد والمحسوبية والنهب المنظم للموارد، هو ذات النظام الذي أفقر هؤلاء الناس بسياساته الإجرامية وتخليه عن أي مسؤولية اجتماعية حقيقية، وبينما تتعدد فرص الثراء السريع أمام المحظوظين المتصلين بأنابيب الفساد الوحيدة المتاحة، يختار هؤلاء الفقراء البقاء على شرفهم رغم الجوع، لأنهم يدركون جيداً أن اثرياء مصر المعاصرين، لم يكن يستطيعوا تحقيق ثرائهم إلا عبر هذه الأنابيب القذرة، فالفقر هو الثمن الباهظ لرفض الانحطاط، بينما الثراء هو في الغالب شهادة على القدرة على المساومة والتكيّف مع الفساد، هذه هي الحقيقة التي تفضح زيف خطابات "تحمل المسؤولية الشخصية" التي تطلقها النخب من أبراجها الزجاجية الحقيرة.

هذا السلوك المنحط يكشف عن تطبيق عملي صارخ لآليات التنافر المعرفي والانفصال الأخلاقي المذكورة اعلاه، فأولئك المعلقون - الذين يعيشون في رفاهية نسبية مبنية على استغلال النظام الاقتصادي المشوه - يواجهون تنافراً معرفياً حاداً عندما يُصدموا بحقيقة أن 18 فتاة ماتت وهي تسعى لكسب لقمة عيش شريفة، هذا المشهد يذكّرهم بوضوح مؤلم بأن ثرواتهم ومكانتهم الاجتماعية قد تكون مبنية على نظام ظالم يجبر الفقراء على المخاطرة بحياتهم من أجل البقاء، بينما هم يستفيدون من هذا النظام ذاته.

لحل هذا التنافر المعرفي المؤلم، يلجأون إلى آليات الانفصال الأخلاقي بصورة فاضحة: يعيدون هيكلة الواقع معرفياً ليجعلوا من الضحايا مُذنبين يستحقون ما حل بهم، عبر صياغة تبريراً أخلاقياً زائفاً مفاده أن "المسؤولية تقع على الفقراء أنفسهم لإنجابهم أطفالاً لا يستطيعون رعايتهم"، هذا التبرير المجرم يخدم غرضين نفسيين: الأول هو تخفيف الضغط النفسي الناتج عن رؤية عواقب النظام الظالم الذي يستفيدون منه، والثاني هو محاولة جر المحيطين بهم إلى نفس مستنقع الانحطاط الأخلاقي الذي يتخبطون فيه.

إن هؤلاء المعلقين - في لحظة كشف إنسانية عميقة كان يجب أن تُثير فيهم التعاطف والرغبة في العدالة الاجتماعية - يختارون بدلاً من ذلك أن يصبحوا دعاة للامبالاة والقسوة، مدفوعين بنفس النزعة التدميرية التي ذكرناها: "لن أسقط في وحل اللامبالاة وحدي". إنهم يحاولون بشراسة أن يقنعوا الآخرين بأن التعاطف مع الفقراء "سذاجة"، وأن العدالة الاجتماعية "مُثالية خرقاء"، وأن النظام الظالم "طبيعة الحياة" التي لا يمكن تغييرها، وأن من يسعى لتغييرها "حالم أو منافق".

هكذا تتحول المأساة الإنسانية إلى فرصة ذهبية لنشر الانحطاط وتطبيع القسوة، في محاولة يائسة من هؤلاء المنحطين أخلاقياً لتبرير سقوطهم عبر إسقاط الآخرين معهم في نفس الهاوية.


مراجع

1- مكليود، سول. "التنافر المعرفي في علم النفس: التعريف والأمثلة." علم النفس المبسط، 20 يونيو 2025- https://www.simplypsychology.org/cognitive-dissonance.html

2- باندورا، ألبرت. "الانفصال الأخلاقي في ارتكاب أعمال اللاإنسانية." مجلة مراجعة الشخصية وعلم النفس الاجتماعي، المجلد 3، العدد 3 (1999): 193-209.

3- حنا أرندت، أصول التوتاليتارية، (نيويورك: هاركورت بريس جوفانوفيتش، 1951).