طقوس الانتحار الجماعي الموسمية
1- نجاة الوعي
لحظات خاصة جدا في تاريخ الانسان، يكون فيها الاستناد للعلم سبيل وحيد للنجاة، أو على الأقل للحفاظ على عقلك بالمعنى الحرفي للكلمة، ونحن الآن نعيش واحدة من تلك اللحظات، وعليه محاولة الفهم عبر العلم هي الطريقة الوحيدة للانقاذ، والانقاذ هو الفعل الادق لما وصل له الاجتماع الانساني في مصر.
في العام 1979، نشر عالما النفس الاجتماعي هنري تاجفل وجون تيرنر ورقة بحثية بعنوان "نظرية تكاملية للصراع بين الجماعات" (An Integrative Theory of Intergroup Conflict)، والتي أسست لما يُعرف بـ"نظرية الهوية الاجتماعية" (Social Identity Theory).
تُعرِّف هذه النظرية، الهوية الاجتماعية بأنها ذلك الجزء من مفهوم الفرد عن ذاته الذي يستمده من إدراكه لانتمائه إلى جماعة اجتماعية معينة، بعبارة أخرى، لا يشتق الإنسان إحساسه بهويته من خصائصه الفردية وحدها، بل أيضاً من المجموعات التي ينتمي إليها أو يتصور نفسه جزءاً منها، سواء كانت هذه الجماعات قائمة على أسس قومية أو دينية أو ثقافية أو حتى تاريخية.
وتستند النظرية إلى عدة مفاهيم أساسية، من بينها: "التصنيف الاجتماعي" (Social Categorization)، وهو الميل التلقائي لدى الدماغ البشري لتصنيف الأفراد إلى فئات من "نحن" مقابل "هم"؛ و"التمايز الإيجابي" (Positive Distinctiveness)، أي السعي لجعل الجماعة التي ينتمي إليها الفرد متفوقة أو متميزة عن الجماعات الأخرى.
وعليه، فعندما نرى مجموعة من البشر يحاولون أن يعيدوا إنتاج صورهم عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي بحيث تُظهرهم بملابس وبيئة أسلافهم من آلاف السنين، فإننا نشهد تطبيقاً عملياً للمفهومان السابقان، ذلك التصنيف الذي يضع هؤلاء الأفراد ضمن استمرارية حضارية ممتدة، والتمايز الذي يسعى لتأكيد تفوق أو عراقة هذا الانتماء، والاستناد إلى أمجاد ماضٍ بعيد لم يكن لهم فيه أي دور فعلي.
تبدو هذه وجهة نظر معقولة لكنها ليست كافية، لأنني أرى في حقيقة الأمر أن ما يحدث أعمق وأكثر بؤساً مما تفسره النظرية السابقة، لأنني أعتقد أننا أمام عملية مركبة تتكون من مرحلتين متتاليتين في التفاعل النفسي والاجتماعي.
المرحلة الأولى تتمثل فيما يُعرف بـ"الاستلاب (Alienation)، وهو مفهوم طوره كارل ماركس في مخطوطاته الاقتصادية والفلسفية، حيث حلل كيف يفقد العامل السيطرة على عمله ومنتجه في النظام الرأسمالي، وقد وسّعت مدرسة فرانكفورت النقدية هذا المفهوم عبر تحليل الاستلاب في البعد الثقافي والاجتماعي، خاصة من خلال مفهوم "صناعة الثقافة" (Culture Industry) الذي طوره أدورنو واخرون ، والذي يوضح كيف تُسلّع الثقافة وتُستخدم للهيمنة الأيديولوجية وإخماد الوعي النقدي.
فالاستلاب يحدث حين يفقد الإنسان السيطرة على واقعه الراهن، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي، مما يؤدي إلى لجوء الفرد إلى سد الفراغات عبر تبني هوية استهلاكية مُستعارة، فمثلاً، اتخاذ هوية مُستعارة عبر شكل هوية تاريخية مُصنعة بواسطة الذكاء الاصطناعي، في محاولة لإسقاطها على الحاضر العاجز، عبر صورة ماضٍ متخيل ومُمجد. أما المرحلة الثانية، والأكثر كابوسية، فتتجسد في "نظرية إدارة الرعب" (Terror Management Theory)، والتي طورها غرينبرغ وسولومون وبيسزينسكي عام 1986.
تلك النظرية التي تنطلق من فرضية أساسية مفادها أن البشر، بوصفهم الكائنات الوحيدة الواعية بحتمية موتها، يعيشون في حالة دائمة من القلق الوجودي، وللتعامل مع هذا القلق المستمر، يتمسك الأفراد بأنظمة "معنى" ثقافية تمنحهم شكلاً من أشكال "الخلود الرمزي"، هنا تتحول عبارة "أنا جزء من حضارة أبدية" إلى آلية دفاع نفسي تقول: "أنا لن أموت فعلياً، لأنني امتداد لشيء خالد يسبقني ويتجاوزني"، وبهذا المعنى، تصبح الصورة المُنتجة بالذكاء الاصطناعي محاولة يائسة للاتصال بـ"الخلود" عبر الماضي السحيق، وكأن الارتباط البصري بأسلاف متخيلين يمنح الفرد نوعاً من البقاء الرمزي في مواجهة فنائه الحتمي.
في ألمانيا ما بين الحربين، وتحديداً في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، شهد المجتمع الألماني تجسيداً كارثياً لهذه الآليات النفسية ذاتها، فبعد الهزيمة المذلة في الحرب العالمية الأولى والانهيار الاقتصادي الكارثي الذي أعقبها، فقد الألمان السيطرة على واقعهم الراهن بشكل كامل، مما أدى إلى استلاب ثقافي عميق دفعهم للبحث عن هوية مُستعارة ومُمجدة، فكان الحل النازي هو العودة إلى أسطورة "الآريين" والعرق الجرماني النقي، وإعادة تخيل ماضٍ مجيد يمتد لقرون من العظمة المُفترضة، بل وربط الذات الجماعية الألمانية بإرث الإمبراطورية الرومانية المقدسة.
هنا تحول "التنوع الإيجابي" إلى تفوق عنصري ممنهج، وتحولت عبارة "نحن الشعب الأبدي" إلى وعد بـ"رايخ ثالث سيدوم ألف عام"، ما يمنح الفرد الألماني خلوداً رمزياً عبر ذوبانه في كيان جماعي خالد، لكن الفارق المرعب هو أن النازية لم تكتفِ بالهروب النفسي السلبي، بل حوّلت هذه الآليات الدفاعية إلى أيديولوجيا سياسية عنيفة أنتجت الإبادة الجماعية والحرب الشاملة، مُظهرةً كيف يمكن للاستلاب الثقافي والقلق الوجودي أن يتحولا، في ظروف معينة، من مجرد أعراض نفسية جماعية إلى كارثة إنسانية شاملة.
2- في صورتنا لسنا كما كنا بل كما تمنينا أن نكون
في الوثائقي الشهير "أسرار مقبرة سقارة" (Secrets of the Saqqara Tomb) الذي أنتجته نتفليكس عام 2020، ظهرت دكتورة أميرة شاهين، أستاذة أمراض الروماتيزم في كلية الطب بجامعة القاهرة، ومتخصصة في دراسة وتحليل العظام البشرية في جامعة ولاية كاليفورنيا، سان برناردينو، حيث كان للدكتورة أميرة دور محوري في فهم القصة الحقيقية وراء مقبرة الكاهن واح-تي التي يعود عمرها إلى 4,400 سنة.
تظهر دكتورة أميرة وهي انسانة شديدة الرقة و اللطف، وكيف لا وهي متخصصة في أكثر ما يختزل الإنسان إلى حقيقته المجردة: العظام.
نراها تتعامل مع الجماجم والهياكل العظمية بمنتهى الحنو والاحترام، عظام لم تحظَ بالتحنيط الملكي الفاخر لأنها تعود لبشر عاديين، لا لفراعنة، نراها تفحص الجماجم بدقة العالِمة لتحدد جنس صاحبها، وتجمع العظام المتناثرة بحرص بالغ، وفي لحظة مهيبة، حين اكتملت العظام جميعاً بجانب بعضها البعض، وقفت بجلال وقالت بالعامية المصرية وبعفوية مؤثرة: "الراجل وعيلته كلها جنب بعض".
في هذا الوثائقي، و بإنجليزية فصيحة، أدلت الدكتورة أميرة ، بتصريح يحمل ثقل ضمير العالِمة والخبيرة معاً، تصريح شديد الأثر والأهمية، تكشف لنا فيه بدقة علمية ما لا نستطيع أن نراه من وراء الضباب الذي تحدثه الأسطورة الملحمية الصماء، أشارت إلى الحوائط المنقوش عليها تماثيل الأسرة في هيئتها المثالية الشامخة، وقالت نصاً، ما ترجمته:
*"لقد فهمنا الأمر بشكل خاطئ، هذه هي أحلامهم، وليست الواقع. اعتقدنا أنهم وضعوا صورهم على الجدران. لا، ليس لديهم هذا الاعتقاد؛ هم ليسوا مثلنا نحن الذين نلتقط صورنا على فيسبوك أو ما شابه، لا. هذا ليس فيسبوك؛ هذه أحلامهم، لأنهم يؤمنون بالحياة الأخرى أكثر بكثير مما يؤمنون بالحياة الأولى، ولهذا السبب صنعوا أحلام الحياة الأخرى على الجدران." * ثم أشارت لعظامهم التي عرفت بتحليلها كيف كانت حياتهم الصحية شديدة الصعوبة وما كانوا يعانونه، وقالت:
"وهذه هي حياتهم الأولى، ولهذا السبب ارتكبنا الكثير من الأخطاء بشأن التاريخ، نرى المعابد العظيمة والتماثيل الضخمة ونعتقد أن كل شيء في التاريخ كان مثالياً، ثم عندما ترى البشر تكتشف أنهم مثلنا تماماً، بالضبط مثلنا، هذه هي القصة الحقيقية."
يا له من تصريح عظيم يضع كل دجالي الحضارة والعلماء المزيفين أمام مأزق حقيقي لا مفر منه، فالتاريخ ليس كما يريدونه أن يكون، وليس أداة طيّعة تخدم مصالحهم المباشرة أو تُبرر أكاذيبهم ودجلهم، الحقيقة العلمية تقول إن هؤلاء البشر الذين صوروا أنفسهم شامخين منتصبي القامات على جدران مقابرهم، إنما كانوا يرسمون ما يتمنون أن يكونوه في الحياة الآخرة، لا ما كانوه بالفعل في حياتهم الأولى.
عندما فحصت الدكتورة أميرة رفات عائلة واح-تي، اكتشفت وجود تشوهات غير طبيعية في العظام تشير إلى أن العائلة بأكملها ماتت بسبب مرض أو وباء واحد، وبعد تحليل دقيق، توصلت إلى نظرية أن السبب الأرجح للوفاة كان الملاريا،و هذا الاكتشاف، إن تأكد، قد يجعل هذه الحالات أقدم حالات ملاريا موثقة في التاريخ البشري بفارق يتجاوز الألف سنة عن أي حالة أخرى معروفة، هذه هي الطريقة الأدق لفهم التاريخ، للتفاعل معه.
3- حفرية رقمية تعود للعام 2025 ميلادية:
تخيلوا معي في العام 6425 ميلادية، اي بعد 4400 سنة من الآن، تعثر باحثة أثرية على حفرية رقمية لصورة مُولدة بالذكاء الاصطناعي تعود لإنسان مصري من عام 2025.
في الصورة، يظهر الرجل مكتمل اللياقة، بجسد رياضي متناسق، يرتدي ملابس فرعونية فخمة، وخلفه تقف المعابد العظيمة شامخة، تكتشف الباحثة أن هذه الصورة صُنعت بمناسبة افتتاح متحف ضخم لتجميع الآثار الفرعونية التي كانت تبعد عن حياة هذا الشخص بـ 4400 سنة أخرى، أي ما يوازي 8800 سنة من لحظة اكتشاف الحفرية الرقمية.
وبالصدفة، تستطيع الباحثة أن تعثر على رفات صاحب تلك الصورة المُولدة بالذكاء الاصطناعي، تفحص عظامه بدقة ـ تماماً كما فعلت دكتورة أميرة شاهين ـ فتكتشف أنه كان يعاني من مرض السكري والفشل الكلوي وكل الأمراض الناتجة عن الحياة في مصر 2025: التلوث، سوء التغذية، الضغوط النفسية الهائلة، والانهيار الصحي الجماعي.
ستدرك الباحثة حينها أن هذا الإنسان لم يكن يحاول تخليد حقيقته، بل كان يحاول تخليد أحلامه، لكن الأمر أكثر مأساوية من ذلك، لأن هذه الأحلام لم تكن حتى أحلامه هو، بل هي أحلام شخص آخر عاش قبله بـ 4400 سنة، شخص لم يصور نفسه كما كان، بل صور ما كان يتمنى أن يكونه.
أحلام تتغذى على أحلام، وأوهام تُشيّد فوق أوهام، وموتى يحلمون بأحلام موتى آخرين، سلسلة لا تنتهي من البشر العاجزين الذين لم يعيشوا حياتهم قط، بل عاشوا حياة مُتخيلة لأسلاف مُتخيلين، في هروب متواصل من واقع لم يجرؤوا على مواجهته أبداً.
وهكذا يعيش المصريين طقوس انتحار جماعي موسمية، حيث يموت كل جيل دون أن يعيش، تاركاً وراءه صوراً مُزيفة لحياة لم تحدث، لتصبح كذبة الجيل القادم الذي سيموت هو الآخر دون أن يعيش.
مراجع
نظرية الهوية الاجتماعية https://www.simplypsychology.org/social-identity-theory.htmlنظرية إدارة الرعب:
https://www.simplypsychology.org/terror-management-theory.html
https://en.wikipedia.org/wiki/Terror_management_theory
نظرية الاستلاب :
https://en.wikipedia.org/wiki/Marx's_theory_of_alienation
https://en.wikipedia.org/wiki/Frankfurt_School